admin
عدد المساهمات : 146 التقيم : 17257 تاريخ التسجيل : 13/08/2009 العمر : 31
| موضوع: بائع الفستق الخميس أغسطس 13, 2009 7:16 pm | |
| إن الحُبَّ أحيانًا يصبحُ مصيبةً لمن يُصابُ به، أو هو بالتأكيد ليسَ مرضًا حتى أكتُبَ -يُصاب-، إنّما هو قَدَرٌ حتمي لكلّ إنسان، ولا مناصَ منه. وهل هو مصيبةٌ فعلًا، لا أستطيعُ القولَ بذلك، أوِ القولَ مُطلقًا، إنّما هناكَ من يجعلونَ منه لأنفسِهِم مصيبةً كبيرة.
رواية قصيرة لِسمير عطا الله، اسمُها "بائعُ الفستُق"، كنت وأنا أكتُبُ هذه القراءة لها؛ أُمسِكُ رأسي بكلتا يديّ قليلًا، وأكملُ الكتابةَ قليلًا، فهل تتصورون أن يقومَ أحدٌ بُرجوازيُّ المنشأ، إذا سَعَلَ أحدٌ في بيته أتَوْا له بورقٍ نقديٍّ لِيمسَحَ مُخاطَه، بهجرةِ أهلهِ وبلده وهو في التاسعةِ عشرةَ من عُمُره، إثرَ صدِّه من قِبَلِ فتاةٍ كان يُحبها حين عَرَضَ عليها الزواجَ منه؟
شخصٌ قرَّر هجرةَ كلَّ شيءٍ في حياتِه والذهاب بعيدًا، اختلطَ عليه كلُّ شيء، حاربَ في الجزائر، ودخل الجيشَ الفرنسي، وعملَ طباخًا، وفي الأخير، امتهنَ بيعَ الفستقِ الحار في السنغال، -عندَ زاويةٍ قريبةٍ من فندقٍ في بلدةٍ اسمُها "كاولاك"- شابٌّ كانت أمه من أهمِّ نساءِ بيروت، لها يدٌ طولى في السياسة، ولها مكانة عظيمة في لبنان، وأبوهُ ذراعٌ لا يمكنُ لِلُبنانَ أن تبتُرَها، وإن كانت بلا فائدة.
قررَ أخوهُ الذي يصغُرُه على الأقل بخمسةِ عشرةَ عامًا، أن يبحثَ عنه بعد انقضاءِ ثلاثين سنةٍ على هجرتهِ التي ما يعرفُ أهلُه سببها، فالأم كانت تعتقدُ أنها السبب، لكثرة ما كانت تختلط برجالِ السياسة، وأبوهُ كان يعتقد أنه السببَ؛ لإهماله الاهتمامَ بعائلته، ولكن لم يعلموا أن ابنَهُمُ المخبولُ فرَّ لأن فتاةً صَدَّتهُ عنها!
سافر أخوه إلى السنغال إلى بلدة كاولاك بحثًا عنه، بعد أن وعدَ أمه التي أُطلِقَ عليها بعد لقبها "الست" بلقب "حبيسةُ النافذة"؛ حيثُ كانت لا تبارحُ مكانها لدى النافذة مذُّ أن هجَرَ هذا الابنُ البكر إلاّ للضرورة، ما عادت ترى أحدًا، وما عادت تحبُّ أن يراها أحدٌ، بحثَ عنه أربعة أيامٍ فقط، يظنُّ هذا الأخُ الطيّب، أنه سيجدُ أخاه الذي غاب عنهم ثلاثون سنة بسهولة ويُسر، ولكن هيهاتَ هيهات، لولا أن الصدفةَ كانت حليفةَ محامي العائلة العجوز، الذي ذهبَ له الأخُ بعد عودته ليرجوَهُ الذهابَ إلى السنغال عِوضًا عنه، حتى ينهي هو أعمالَه في بيروت، فيقفُلُ عائدًا إلى السنغال، ويكونان اثنَيْنِ لمَهَمَّةٍ واحدة، ويكونَ الوقتُ هكذا أقصر، والفرصةُ أكبر.
عندما ذهب الأخُ للسنغال كانَ هناكَ بائعُ فستقٍ حار، عند الزاويةِ التي يسكن فيها الأخ الفندقَ، كان دائمًا عندَ خروجِهِ وعند عودتِه من المحامي السنغالي الحاج عثمان الذي كان أداةً لمعاونتهم في إيجادِ هذا الابنِ الضالّ؛ يشتري من بائع الفستقِ الحار، وكان يَعجَبُ من أمرِ هذا البائع الأسودُ البشرة، الأبيضُ الملامح، فلم تكُن تبينُ من ملامحهِ أيُّ صفةٍ خَلْقيةٍ من شفاهٍ غليظةٍ أو شعرٍ مُفلفَلٍ، أو غيره من الصفاتِ التي يتَّسِمُ بها الأفارقةُ دائمًا، ولكنه مع ذلك لم يُبدِ ذلكَ الاهتمامَ الكبيرَ في هذا الأمر.
ومن مُصادفات الحياة أن الأخَ الصغير اشترى من هذا البائع يومًا فستقًا حارًّا كعادته، ولكن ما كان ساعتئذٍ يملُكُ مالًا كافيًا، فقالَ له البائع، اذهب، وإن كان معك غدًا، فتعالَ وادفع، ولا تحرِص على ذلك، ولكنه في آخر يومٍ له في السنغال كانَ يملُكُ كفايةً من المال، واشترى من بائع الفستق، ونَقَدَه ما كان قد نقصَ بالأمس، وكان يريدُ أن يدردشَ مع البائع قليلاً لألفةٍ يتميَّزُ بها هذا البائع، وأخبره بأمر سببِ مجيئه، أنه يبحثُ عن أخٍ له، وإن كانَ قد رآه أو سمع عنه، فجاوبه البائع أنه لا يعلم، وأنه من الجزائر وأنه حديثُ عهدٍ بالمِنطَقَة، فودَّعه الأخُ الصغير وأذيالُ الخيبةِ وراءَه يَجُرُّها، وعادَ إلى بيروت.
حدثَ مع المُحامي ما حدث مع الأخ حينَ وصلَ السنغال، سكن الفندقَ نفسه، وخطر له حينَ خرجَ يومًا أن يشتري من هذا البائع فُستقًا حارًّا، ولم يكن مع المحامي العجوز عُملةً سنغالية، وقالَ له البائع غدًا تأتي به، يقصد المال، وكان قد رتبَ المحامي العجوز لقاءً مع الحاج عثمان المحامي الذي استعانوا به للبحث معهم عن هذا الابنِ الضال، وحين وصلَ مكتبَ الحاج عثمان، وَمَضَ وجهُ بائع الفستقِ في ذاكرةِ المحامي العجوز، لقد كان البائعَ أسودُ البشرة، أبيضُ الملامِح، ففصَّل الوجهَ قليلًا، فأدركَ أن البائعَ هو الابنُ الضال، نعم هو، كيفَ لم يدركِ الأخُ الصغيرُ ذلك، والسببُ أنه قد كان وقتَ هروبِ الأخ الضال ذا أربعةِ أعوامٍ، ولم يكُ قد رأى هذا الأخَ إلا في صورةٍ قديمة.
أدركه المحامي العجوز قافلاً عائدًا من مكتب الحاج عثمان، فسلَّمَ عليه، ثم قربَ المحامي العجوز وجههُ إليه، فضمَّه إليه، وقالَ ثلاثونَ سنة، فبكى البائعُ فورًا إذ كأنما كانَ كمن فاقدًا ذاكرتَه فعادت إليه في الحال، لقد كان بائعَ الفستق هو الابنُ الضال، الهارب منذُ ثلاثين عامًا، لم تكنِ العودةُ سهلة، لقد كان متزوجًا من فتاةٍ أفريقية، اسمها مريم، ولديهما خمسةُ أولاد، كيف يعودُ بهم، كيف تقتنع هذه الفتاة، ابنةُ الغاب، كيف تتركُ الحياةَ التي نشئت فيها وتشرّبتها مثلما اكتسبت لونَ بشرتها من عروقٍ بائدةٍ من أجدادٍ وأبٍ وأم، الأولاد رفرفت قلوبهم مرحًا بالسفر إلى بيروت، فقد كانت بالنسبة إليهم مثلَ أرضِ الأحلام التي نسمع عنها وما نراها، ولكن الوضع كان مختلفًا مع مريم، إذ لم تكن ترغبُ أبدًا، ولكن وكما كتبَ الراوي أن مريم لم تكن لترفض لأنها قد علِمَت بغريزتها الأنثويَّة أن زوجها قد صنع قراره ولن يعدِلَ عنه.
ذهبوا جميعًا إلى الطائرة، وحين كانوا في عربة النقل من المطار إلى الطائرة، وبينا كانَ الابنُ الضال يحملُ أصغرَ أبنائِه في حضنه؛ نظرَ إلى آخر العربة كي يرى مريم زوجتَه، ولكنه لم يجدها، وكان يعلمُ أنها ستذوي يومًا، ولكن لم يعتقد أنها ستذوي هكذا.
انتهت الرواية.
هذي قصةٌ حقيقيّة، وليست من نسجِ خيالِ سمير عطا الله، غيرَ أنه أضافَ عليها بعضَ تَوَابلَ هنديّة.
إنّ الذي مَنَعَ الابنَ الضالَّ أن يعود، هو الخوفُ من الإفصاحِ عن سببه التافه غير المعقول، إذ كان بفعلته هذه قد أصابَ العائلة وأصحاب العائلة بهمومَ كثيرة، فقد كان كلُّ واحدٍ يعتقدُ أنه السببَ في هجرةِ هذا المخبول.
كان الخوفُ أقوى من حنينِه، كان الرعب أشدَّ حرارةً من شوقه.
ثلاثونَ سنةٍ ضلالًا، كانَ سببها أن خلَّفت فتاةٌ ظهرَ قلبِها قلبَ رجلٍ يحبُّها.
وإنَّهُ قد لا يكونُ سببًا تافهًا فعلًا، ففي الذاكرةِ ما قرأتُ يومًا لغابرييل غارسيا ماركيز روايةَ "الحب في زمنِ الكُوليرا"، وهي روايةٌ تتحدّثُ عن فتًى أحبَّ فتاةً ولم يكُ مُقَدَّرًا له أن يرتبِطَ بها، أحبّتهُ ووَعَدَت أن يتزوّجا رغمَ أنفِ أبيها، ولكن كان أن هجرت وأبوها بلادَ هذا الفتى وحين عادا، أدركتِ الفتاةُ سذاجتها بحبّها له، ولكنّ الفتى على رغمِ ذلك لم يسأمَ أملًا، ولم يَخِفَّ له قرارٌ، وصَبَرَ ثلاثةً وخمسينَ عامًا يتمنّى أن يموتَ زوجُهَا حتى يعُودَ فيعرِضَ نفسَهُ كعاشِقٍ لم يسأمَ أو يحقِدَ أو يفتأَ، فماتَ زوجُها، فعادَ إليها، وكانَ أن أخرجها من ظلامِهَا، ورجعَ ما كان قد نبتَ بينهما ينْمُو.
اللهمَّ فخفّف وَطْأَةَ الحب في قلوبِ الناس وقلوبِنَا قبلًا!
| |
|
دموع الاقصى
عدد المساهمات : 202 التقيم : 16969 تاريخ التسجيل : 13/09/2009 العمر : 35
| موضوع: شكرا الأربعاء سبتمبر 16, 2009 5:00 am | |
| | |
|
admin
عدد المساهمات : 146 التقيم : 17257 تاريخ التسجيل : 13/08/2009 العمر : 31
| موضوع: رد: بائع الفستق الأربعاء سبتمبر 16, 2009 9:11 am | |
| | |
|